د. لطفي الشربيني
◄الفلوس.. كلمة السر التي يدور حولها الكثير من اهتمام الناس.. وهمومهم أيضاً.. وكما أنّ الفلوس (أو النقود) هي رمز للرزق أو المكسب الاقتصادي والرفاهية، فإنها أيضاً – من وجهة النظر النفسية – مصدر للقلق، وسبب في كثير من الاضطرابات النفسية. وهنا.. في هذا الموضوع.. نحاول إلقاء الضوء على العلاقة بين المال وبين الحالة النفسية.. ونتأمل في أحوال الناس وعلاقتهم بالفلوس.. ثمّ نحاول أن نصل إلى صيغة متوازنة لتجنب "الآثار الجانبية" التي تنشأ عن القلق والهموم التي تسببها الفلوس.
المال.. مصدر للقلق:
العلاقة بين الحالة الاقتصادية، أو حالة الإنسان من حيث الفقر والغني وما يمتلكه من أموال وبين الحالة النفسية للشخص وما يصيبه من انفعالات واضطرابات كانت ولا زالت أحد موضوعات البحث بالنسبة لعلماء النفس.. فقد حاول "هولمز" عالم النفس الأمريكي أن يحدد الضغوط والعوامل التي تصادف الناس في حياتهم، والمواقف التي يتعرضون لها وينشأ عنها الاضطراب النفس لما تمثله من ضغط نفسي، وقد وضع لكل من مواقف وأحداث الحياة التي يرى أنها تمثل نفسية تقديراً كمياً في صورة درجات تتناسب مع التأثير الانفعالي لهذا الحدث على صحة الفرد النفسية حين يتعرض له، ووضع قائمة تضم عدداً من المواقف تندرج في تأثيرها كان من بينها عدد من الأمور المتعلقة بالمال منها على سبيل المثال الخسارة المادية، أو الاستدانة بالحصول على قرض مالي، أو فقد مصدر الرزق من العمل أو التجارة، وحتى الحصول على مكسب مالي كان من وجهة النظر النفسية مصدر انفعال وضغط نفسي قبل أن يكون مناسبة سارة تبعث على السرور والارتياح!!
ومن خلال ممارسة الطب النفسي فإننا حين نحاول البحث عن جذور الأمراض والاضطرابات النفسية التي تصيب الناس والتي تزايد انتشارها في عالم اليوم مثل القلق والاكتئاب فإنّ أصابع الاتهام تشير إلى أسباب تتعلق بالمال أو الصحة أو الأبناء.. وهذه هي تقريباً المصادر الرئيسية للمتاعب النفسية لكثير من الناس حين ساورهم القلق بشأن الرزق أو حالتهم الصحية أو حول أحوال ومستقبل أبنائهم.. وكما نلاحظ فإنّ المال يأتي في المقدمة حيث يقلق الشخص على وضعه المادي سواء كان فقيراً يشغل باله الحصول على الفلوس، أو غنياً يخشى أن يخسر أو يفقد ما لديه منها!!
الحصول على الفلوس:
من الناحية العملية.. لا توجد علاقة مباشرة بين مستوى ذكاء الفرد وحالته الاقتصادية أو وضعه المالي، وكثير من الناس رغم ارتفاع مستوى قدراتهم لا يمكن لهم الوصول إلى حالة الثراء أو كسب الكثير من المال باستخدام الذكاء والحيلة، كما توجد نماذج أخرى من متوسطي الذكاء بل وأصحاب القدرات المحدودة يتوفر لهم كسب مادي كبير، ولا يوجد تفسير نفسي لذلك حيث أنّ مسألة الرزق تظل خارج الكثير من الحسابات العلمية، فلا تجد تفسيراً لنجاح شخص فشل في التعليم نتيجة للبطء في التحصيل الدراسي في أن يجمع ويدير ثروة كبيرة.. بينما يعيش زميله الذي تفوق في الدراسة وحصل على قدر كبير من التعليم في حالة من الفقر!!
وحين نحاول البحث عن التأثير النفسي للفلوس فإننا نجد أنها مواقف كثيرة لا تكون مصدراً للسعادة أو راحة البال.. بل على العكس من ذلك فإنّ المال يقف وراء الكثير من الصراعات الإنسانية على مستوى الأفراد والجماعات، وكثير من الجرائم التي ترتكب ويتم فيها استخدام العنف وإزهاق الأرواح يكون الدافع الأوّل وراءها هو الحصول على الأموال والذين يقومون بالسرقة كثيراً ما يكون عملهم مبرراً بأنّهم لا يجدون الأموال التي تكفيهم فيلجئون لسرقة أموال غيرهم، وهذا تبرير مرضي غير مقبول لأنّ الكثير من اللصوص يحصلون على ما يزيد كثيراً ما حاجتهم من أموال الآخرين.. والغريب أيضاً أنّ من يحصل على الأموال بطرق غير مشروعة يتجه إلى إنفاق هذا المال في بنود ضارة مثل المواد المخدرة أو الإسراف في الطعام الذي يسبب الأذى.
المنظور الإسلامي:
حين نتأمل المنظور الإسلامي لقضية المال نجد أنّ الجانب النفسي في المسألة قد ورد ذكره بصورة مباشرة في آيات القرآن الكريم في قوله تعالى: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ) (آل عمران/ 14)، ومن قوله تعالى: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا...) (الكهف/ 46)، ومع التأكيد على اهتمام الناس بالمال وحرصهم على الحصول عليه فإنّ آيات القرآن الكريم تتضمن تحذيراً من الاتجاه إلى الإسراف في إنفاق المال وتبذيره، أو أمسك المال والبخل في إنفاقه والحرص على اكتنازه حتى يؤدى وظيفته حين يتم التعامل فيه باعتدال.
ومن المنظور الإسلامي فإنّ الإنسان مطلوب منه أن يهون على نفسه من الأمور التي تخص المال ولا ينزعج للمكسب أو الخسارة، ولا يساوره القلق بشأن المال لأنّ الرزق مكفول ومقدر، ولا يعتمد فقط على السعي أو الحيلة، ويؤكد ذلك قوله تعالى: (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ) (الذاريات/ 22)، وقوله تعالى: (وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (البقرة/ 212).. وهذا كفيل بأن يهدئ من روع الذين يقلقون بشأن المستقبل واحتمالات الخسائر المادية التي تهدد بالفقر والحاجة رغم أنّ الرزق من عند الله سبحانه وتعالى، ونذكر هنا رؤية الإمام عليّ بن أبي طالب حول الحيلة في الرزق التي يلجأ إليها الكثير من الناس للحصول على المال بأيّة وسيلة حين ذكر أنّ الرزق نوعان: رزق تطلبه، ورزق يطلبك، ولا شكّ أنّ في حياة كل منا مثالاً على كسب مادي غير متوقع حصلنا عليه، وآخر حاولنا بالجهد الحصول عليه فأمكننا أو لم يمكننا ذلك.
الحل.. الاعتدال:
من وجهة النظر النفسية فإنّ الفلوس.. أو أطلقنا عليه هنا المال.. أو الرزق.. لاشكّ مسألة هامة للإنسان في حالة الصحة والمرض النفسي.. ليس فقط لأنها الدافع وراء الكثير من أنواع السلوك الإنساني، وليس لأنها السبب وراء الكثير من الاضطرابات النفسية المرضية، ولكن لأنها مثل حاجة إنسانية رئيسية وأحد الهموم الأساسية التي يدور حولها نشاط الإنسان في الحياة وتشغل بالهم ورغم أنّ الحكمة تقتضي أن يضع الإنسان موضوع الفلوس والحصول على الأموال في حجمه الطبيعي.. فلا يكون الحصول على المال هدفاً على حساب أوجه الحياة الأخرى، إلا أنّ الناس كثيراً ما يقفون من الفلوس موقفاً آخر يتسم بالضعف في مواجهة إغراء المال، وبعد الحصول عليه يكتشفون خطأ ذلك لأنّ هناك الكثير من الأشياء لا يمكن أن تحققها الفلوس أو يعوضها الثراء. ولعل المنظور الإسلامي المتوازن في مسألة لأموال هو الحل الأمثال لما تسببه الفلوس من "آثار جانبية" (مثل الدواء الذي يعالج مرضاً ويتسبب في مشكلات صحية أخرى أسوأ).. لا بأس إذن من السعي في الحياة وطلب المال، والتطلع إلى الثراء بطريقة مشروعة. مع الحرص على أن يتم ذلك في جو من الاطمئنان وراح البال ودون مبالغة في القلق.. لأنّ المال لا يساوى شيئاً إذا تحول إلى مصدر للهموم والقلق وحاجة الواحد منا للأموال ليست مسألة مفتوحة أو بكمية لا تنتهي بل هي محدودة تحكمها الفترة الزمنية التي نتوقع أن نمضيها في هذه الدنيا قبل أن ينتهي عهدنا في الحياة، فلا مبرر إذن أن ننساق وراء الرغبة في جمع أموال لن نحتاجها بل ستضاعف من همومنا.
ثمة كلمة أخيرة في مسألة الفلوس قبل ختام هذه التأملات النفسية في هذا الموضوع الهام الفلوس قد تكون مصدراً للهموم وليست مفتاحاً للسعادة.. لا داعي للقلق حول المال فالرزق من عند الله.. سيأتيك ما قسم الله لك.►
المصدر: كتاب عصر القلق.. الأسباب والعلاج
ارسال التعليق